الظّلمة لا أن يكون النّور منطفئا أو أن يحلّ بك الظّلام في مكان نأى عن المدينة فلم يتّصل بأعمدة ولا أسلاك تجلب له النّور. بل الظّلمة ان تتجمّع من حولك كلّ الأضواء ولا تستطيع مع ذلك أن ترى بوضوح...ركنت إلى زاوية في شرفة بمنزلي و رحت أخاطب اللّيل كعادتي أحمل بين سبابتي ووسطاي سيجارة هي نفسها ملّت من مقامها عندي فراحت تلسعني لأفلتها ولكنّي لم أتفطّن كأنّ بي خدر أو أنّ حواسي سلبت منّي فما عدت أشعر...كانت تتزاحم في خاطري أفكار و أحاسيس مبهمة رسمت فيّ البهتة و الذّهول فوجدتني أستقبل الفكرة و سرعان ما أعوّضها بأخرى وكذلك كانت مشاعري...أردت أن أستأنس بمن تعودّت لكنّه غاب و دون سابق انذار حتّى الأقدار جعلته حبيس معاناة أخرى تمنع عنه السّماع والكلام وكأنّ جدارا فولاذيّا بني بيننا فجأة أرادته الأقدار و صنعته أياديها ...ألتمس العذر من قدري لأسترق بعض اللّحظات لكنّها لم تكن كفيلة بإسعافي وإخراجي من توهاني و عزلتي اللّتان تفقدانني صوابي...أي نعم أنا أكلّم النّاس وأجالسهم وأحاكيهم و يحاكوني لكنّي لم أستطع اسماعهم صوتي ولم أسمع أصواتهم فلغتي مع من تعودّت لا يتقنها إلاّ نحن ولا يستسيغها سوانا ..لذلك أتوه وأحس بالظلمة و الغربة رغم النّور السّاطع من حولي...ترى هل يعود لي نوري قريبا أم سيطول مقامي في الظّلام حتّى يعود ؟...وتشتدّ الظّلمة ليس عندما ينطفئ نور الشّارع بل عندما يمرّ أمامي أناس جمعت بينهم رسالات و مقامات أناروها وسبحوا في نورها لا أقول هذا حسدا أو أنانية إنّما هو الإنسان فيّ يتساءل أليس لي الحقّ في نور مثل هؤلاء فيكسر الظّلام والغربة فيّ و يسحبني إلى دائرة أخرى أرتئيها...؟ وأشعر بالظّلمة أيضا أو أكثر عندما تنتفض مشاعري لتخبرني أنّي بهذا الشّكل و في هذه الغربة أستحيل إلى هامة فارغة وجرس لا صوت له ثمّ تتثاقل خطايا نحو كلّ أمر قرّرته أو أردته لأجدني ابتعدت عنه مرتدّا لأنّه كان سيكون جميلا برفقة من أردته مشعلا لأفكاري ومشاعري وقد غاب فمتى يعود...؟ بذلت قصارى الجهد وارتسمت صورا أحببتها وصورا اختارها لي رفيقي وأصبحت فيها جميلا متطابقا...أحببت ذلك الانسجام فكان نورا وبهجة وبدونه أظلم الكون فتهت...الأمكنة والأزمنة أصبحت من قبيل الفراغ واللاّشيء فلم يعد ما يربطني بها قريبا ولا بعيدا ولم يعد ظاهرا ولا غائبا ...ضاعت البوصلة وتهت ولامست السّذاجة و البلاهة وافتقرت إلى السّند الّذي يقوّيني ويشدّ على يديّ...مشهد رسمته أقدار غريبة وكنت دائما أخشاها وها هي تعود بي من حيث بدأت وعدت لأستقبح صوري القديمة حتّى الّتي أحبّتها رفيقتي ...عاودني الاشمئزاز و الإحساس بالفراغ و التّقهقر بعد أن بدأت أستعيد نفسي وانتشلها من الضّياع ..فمتى يعود إليّ أناي وأتخلّص من الغربة ...
------------------------------
رشدي الخميري/جندوبة /تونس
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع