القائمة الرئيسية

الصفحات


أو "الاتجاه الممنوع"
العلامة –1-
يعتبرشارع الجمهورية قلب مدينة سليانة النابض وليس "شارع القوس "اي شارع بورقيبة " لافيني "،على حركيته التجارية ونشاطه الخدماتي. لكن الحيوية الكبيرة في شارع الجمهورية لرمزيته من جهة ،ولطبيعة الخدمات فيه من جهة أخرى فهو شارع مغازة المواد الغذائية و ما يحتاجه البيت السّلياني من مواد تنظيف وأجهزة كهربائية وغيرها وهو أيضا شارع الخمور بأنواعها التّونسية والإفرنجية مع ما يتطلب من مستلزمات "الكَمْيَة" من فول" مْدَمّس" "ثوم مسموط" و"قنارية" وماء مجمد لتبريد قوارير "البيرة " الى جانب باعة الانتصاب الفوضوي المرخص لهم بقوّة القانون أو قوّة الذّراع وهم من باعة الخضر والغلال الموسمية يحتلّون الرّصيف الأيمن والأيسر للشّارع ينافسون أسعار المغازة العصرية بتخفيض الاثمان بعض الشّيء . وهم تجّار شطّار ، كثيرا ما يعمدون إلى تقديم خدمات للمغازة العصرية نفسها فيشترون منها المواد الغذائية المتهافت عليها كالموز أو التّفاح أو الخسّ أو البقدونس وغيره . يشترون كامل البضاعة و يبيعونها كما يشتهون خاصّة في المناسبات و الأعياد
وشارعنا على بساطته يظمّ مقهيين "افريكا" و"باريس" في قلبه ويتفرع على ثالثة ورابعة وأكثر.حيث يستمتع الحرفاء باحتساء الشّاي وغيره من المشروبات أو لعب الكارطة أو" الرّامي" والطريف أن بعض الحرفاء لا يستطيبون الجلوس أو لعب الورق إلا وهم يجلسون على كرسيين إثنين . وهو سلوك يعدّ غريبا بالرّغم من أن الكراسي ليس فيها عيب فقد اشتراها صاحبها منذ مدة ليعوّض الكراسي السّابقة التّي برغم أناقتها كان كلّما جلس حريف على واحد منها إلا ووقع أرضا مما حدى بصاحب المقهي إلى تغييرها بعد عدّة محاولات لإصلاحها حيث اجتهد "ولد الباهي" في تعديلها أكثر من مرّة لكنّه لم يفلح بالرّغم من أن "ولد الباهي " خبير عارف بأصول اللّحام ورثها عن والده البارع في لحام "البابورات" وإصلاح الدرّاجات الهوائية والذي كان محلّه القريب من شارع الجمهورية ملتقى بعض شيوخ المدينة المغرمين بلعب الخربقة حيثوا انتقلوا الى مقرّهم الجديد بشارع الجمهورية الى دكان الاسكافي أو الملاخ الحاج محمود الذي كان بارعا في لعب الخربقة هو الآخر الى جانب مهنته وطهي الشاي العربي، يقدمه الى روّاد حانوته وأصحابه مجانا وقد كنت حضرت مرّة صاحب أحد المقاهي يحتسي الشّاي عنده ويتندّر قائلا "والله تايك باهي خير من اللّي نبيع فيه " وقد كان هذا الدّكان قبل أن يتحوّل الي مطعم أكلة خفيفة يرتاده الزّبائن بكثرة . خاصة يوم الخميس وهو يوم السّوق الأسبوعية للمدينة يأتون من مختلف القرى المجاورة كالزريبة وراس الماء والغمالية وسيدي حمادة و أولاد زناق ومصو ج ... يقضون شؤونهم ويخبّؤون بضاعتهم الى حين عودتهم آخر النّهار أو عندما "يفرق السّوق" كما يقولون بعد أن شاركوا في "حسّابية لحم".
فكثيرا ما يعمد الحاج محمود الي شراء شاة يختارها مع أصحابه ويقومون بذبحها وسلخها في مقصورة الحانوت ثم يوزعون لحمها بالتّراضي فيما بينهم ويقتسمون ثمن شرا ئها بالتّساوي و يرجؤن من لم يكن معه إلى حين ميسرة
ويكون الحاج محمود قد اقتطع منها بعض القطع الصّغيرة يأخذها قبل أن يوزّع اللّحم يرميها في " طنجرة الشكشوكة" التي كان يتناولها عند ما تنضج مع أصحابه وهم يقهقون ويتندّرون ويتبارون في كشف الالغاز أو مايعرف ب"الخرّافة " ويحكمون عليها ان كانت"صمدي او بورجيلة" ........
ويظمّ هذا الشّارع أيضا "كوشة رجب " مخبزة الخبز الشّهي وهي من أقدم مخابز المدينة قام صاحبها "عميّ رجب المطماطي" وشقيه "عيسى" الذي كان قائما بشؤون المخبزة..... وقد قاما بتجهيزها بفرن كهربائي دوّار بعد أيام الفرناطة العربي ذات الخبز اللذيذ فواح الرائحة.
الى جانب عدة دكاكين أخرى وأكشاك بيع الدخان وصنع المفاتيح في دقيقة وبيع قطع غيارالسيارات والملابس الجاهزة والتّوابل وبيع الاسماك بمختلف الأصناف
تجد هذا الشارع ذو الاتجاه الواحد يزدحم بالمارّة والمتسوّلين ..... وسيارات حرفاء المغازة وسيارات حرفاءالخمّارة ولا أحد يحترم علامة المرور بل لقد عمد أحد رواد الشارع ومن حرفائه الاوفياء إلى قلع علامة المنع وكاد أن يعنف بها أحد المارّة لولا ألطاف الله فقد كان في عجلة من أمره يريد أن يصل الى المغازة قبل أن تغلق أبوابها ليست مغازة التغذية يريد انما غايته مغازة المشروبات التى لم يبق الكثير من الوقت وتوصد بابها ولا تفتحه الا يو م السبت و غدا يوم جمعة كان يسرع بشاحنته وكاد يدهس هذا الاخير حين إحتج عليه قائلا "إنت في السّونس انتردي"
الطريف في شارع الجمهورية أن آخره أو أوله حسب الاتجاه الذي تسلكه ينتهي بحمام عمومي يستقبل الرّجال والذكور عموما عندما ينطفيء مصباح أحمر معلق بعتبة بابه .وهي عادة سلكها" الحمامجة" لينظموا عملية الاستحمام فإذا كان الفانوس مضاء، اعلم أكرمك الله أنها حصة النّساء للاستحمام والتي تكون عادة من منتصف النّهار إلي أذان المغرب . أما يوم السّبت فهو مخصص لهن من بداية الفجر تستقبلهن "الحارزه" هاشة باشة وقد حجزت للسّخيات من النّساء مقصورات و بعض لوازم الاستحمام من سطل او "كاسه" اومشط او شيء من "الطفل" او"الشامبو"
وذات مرة كان" سيدي صالح" وهو ابن عم والدي والكلّ يناديه "سيدي صالح" وهو رجل "بلدي" يبيع الفريب الفاخر باسوام مشطه ورغم ذلك فحرفاؤه ومن يعرفه يهابه على أناقته وحديثه فهو رجل أسمر حاد الطبع شجاع يتكلم "القالة "ويدخن سجائر من نوع الخضراء ويقطن بالملاسين
كثيرا ما يزورنا مع بضاعته من" بالات الفريب" ليعرضها يوم الاربعاء بسوق "الرّبع " ويوم الخميس برحبة مدينة "سليانة" ثم يقفل راجعا يوم السّبت أو الاحد إلي تونس وتحديدا لسوق" الحرايرية" حيث يعرض بضاعته من جديد
وفي صبحية يوم السّبت واذكر انه كان يوما من أيام عطلة الرّبيع، طلب منّي "سيدي صالح "أن أرافقه الى الحمّام بطلب من أمّي فقد سمتعها تهمس له "آسيدي صالح" كان ماشي للحمام هزو معاك "
وتوجهنا إلي الحمّام وكنت كارها الذّهاب ولكن ليس لي خيار اقتربنا من باب الحمّام وكان الفانوس مطفأ فولجنا البهو ودخلنا البيت الباردة واذ بالصرخة المدوية تصم ّ الاذان "وييو" تطلقها امراة سمراء عارية الصّدر وانقلب سيدي صالح على عاقبيه يدفعني أمامه هامسا "اخرج ،اخرج ،ان شاء الله الصباح مبروك"
وعدنا ادراجنا راجعين من الحمّام..... وسيدي صالح يلعن "الحمامجية "وهذا الحمّام بالذات قائلا "حمّام منزوس "
وهوحمّام للأخوين" يوسف والحاج عبد الله "كان يشتغلان "طبّالة" في ما مضى ....وان كان الحاج "عبد الله "أكبر سنّا من أخيه "يوسف" فهما متشابهان من حيث الخلقة واللّباس يرتديان الشّاشية القرمزية والبلوزة المشقوقة كاكية اللّون عادة أو زرقاء وسراويل عربي التي يحرصان على خياطتها عند ا"لبرني الخياطّ أو" الزّعيم " مع جوارب وأحذية بالخيط
"يوسف" مولع بلعب" الخربقة" مع أنه لا يجيدها فأطلق عليه صفة "الغفاص" أمّا الحاج عبدالله فهو حريص على شغله خاصة بعد أن فتح مع أخيه مطحنة لرحي الحبوب بجانب "ورشة الباهي" قريبا من شارع الجمهورية وهي طاحونة من الطراز القديم ذات محرك كبير تستوعبه مقصورة
بجانبها جابية ماء لتبريد المحرّك يقو م "حوّاس" بملئها كلّما دعت الحاجة لذلك
و"حوّاس" رجل نحيل قصير القامة خافت الصّوت حرفته جرّالماء من الحنفيات
العمومية وأشهرها "سبالة المكتب "
كان "حوّاس" يضع الخشبة على عاتقة وقد لفّ عليها خرقا حتي لا تؤثر في عنقه وكتفيه
وهي خشبة تشبه النّير الذي يضعه الفلاح على رقبة الثّور أثناءالحراثة ويطلق عليها اسم "الكفّة" أما "حوّاس" فيسميها "النقّالة "حيث يتدلّى من طرفيها صفيحتان قصديريتان كانت أصلا تحملان زيت المحركات الميكانيكية سعة الواحدة عشرين لترا تقريبا
ورغم أن الأجرة زهيدة فهي لم تدم طويلا إذ سعى سكان المدينة الى تزويد بيوتهم بمياه الشركة وكان " سعيد الجريدي "سبّاك المدينة في خدمتهم مقابل أجرة لا تناقش
وهو رجل معروف بإتقانه لعمله و دماثه أخلاقه كان الأهالي يسارعون اليه كلما تعطبت الحنفية أو بدأت ترشح فيسألون عنه عند "العم مصصفى الحداد" المشهور باتقانه لحرفته وجودة أدواته كمناجله وفؤوسه وقواديمه وأجلامه وغيرها التي يصنعما بنفسه اويجلبها من تستور الى جانب براعته في" السّن الحدادي" أو "سن الزربوط" فقد كنّا نهرع اليه لتركيب "سن الخضروف "ونرجو أن يقوم هو بتركبها شخصيا فهو أبرع من ابنه الكبير" حمودة" .........وكنّا نتمتّع حين يقوم بتجريب صنع يديه فيدير "الزربوط "بخفة ورشاقة فنشعر بسعادة لا توصف
فيرشدهم الى داره قائلا"في الدورة" فيرافق" العم سعيد" حرفاءه بعد أن يأخذ صندوق ماعونه
من ورشة "العم مصطفى" فهو لا يملك محلا خاصا به . ثم يعرج الى حانوت الحاج "محمود الملاخ "لياخذ قطعة من فواضل "الكمبوسط" يختارها متينة ليصنع منها "جلدة الحنفية."
أما "حوّاس" فقد بحث عن شغل جديد بعدما تجرع البطالة وصادف أن شاهدته مع مجموعة من عمّال تعبيد الطرقات وهو يمسك بخرطوم ينفث الزّفت فيستنشق رائحته الكريهة مكرها ويلفحه رذاذه المقيت ووهج الشّمس الحارقة كأني به يأسف علي أيامه في طابور الحنفية العمومية حيث تصطفّ الأوعية والصفائح فتمتلأ ماءا وبردا وسلاما في هذا القيظ الحارق حيث لا يسمح بخرق الصفّ فالكل حريص على دوره .
استغربت أمي عودتنا وحين عرفت السّبب ضحكت قائلة "مَاهُو شُوفُو الامْبُوبَه تشعل والاَّ طَافِية " وحين أخبرتها أنها لم تكن مشتعلة أجابت بكل برودة "امّالَهْ ماتكون كان مَحروقة "
أما "سيدي صالح" فقد غادر ...وهو يردد "منزوس" ويعني أنه حمّام نجس لما
كان عليه سابقا فقد أقامه أصحابه على أنقاض بناية فندق قديم يأوي اليه المسافرون أو ما يعرف "بالسوّاقة " الذين يفدون على المدينة بمناسبة السّوق الاسبوعية فيضطرّون للمبيت فيه مع دوابهم مقابل دفع معلوم اقامتهم واقامة دوابهم
أمّا اقتناء العلفة من شعير أو تبن فهو أمر اختياري علما وأن الفندق لا يتكفّل بإعاشة الأدميين ....
والفنادق كثيرة في المدينة أشهرها فندق "بوقباعة " وفندق " محمد الاخضر""
امّا الحمّام "المنزوس" على تسمية "سيدي صالح " فقد أقيم في الجزء المخصص لمبيت الأحمرة والأتن
والأرجح فقد أقيم هذا الحمّام والمقهى التي تحاذيه على انقاذ ماخور أو ما يعرف ب"الكارطي " وان كان الحمّام قد أقيم قبل المقهى فلا شك أنه اقيم على جزء من هذا المحل المهجور الذي كانت تديره "فطوم" باقتدار.....
فهي لا تسمح لفتياتها بالقيام بواجبهن إلا بعد أن يكشف عليهن طبيب المدينة "الدكتور عاطف" فعيادته قريبة من ورشة و"لد الباهي " وهو طبيب بارع طويل القامة حسن الاخلاق يدخن بادمان وكثيرا ما تراه يرافق زوجته الاجنبية وكلبته البيضاء المعروفة باسم "سوزي" وان كانت تختلف في اللّون مع كلبة "العم مصطفى الحداد "المعروف هو الآخر بكلبته ".لويزا" فقد كانت تسبقه لتعلن عن حضوره خاصة في موعد ذهابه الى حانة "شارع القوس" المعروفة بقهوة "الجديدي "حيث تدخل الكلبة وتجلس تحت الطاولة في انتظار سيّدها فيتفطن لها النادل" شعير" ويحضر لحريفة قارورتين من الجعة المعروفة "أم كرش"
و"العم مصطفي الحداد "لا يشترك مع" الدكتور عاطف"في مرافقة كلبة فقط ، بل هو بارع في معالجة الحيوانات وخاصة الأحمرة وقد توسع اختصاصه فأصبح يداوي "بونغوط "وهو مرض يصيب الاطفال الرضّع
امّا "فطوّم"أو"أمك فطوّم" كما يحلو لأهل المدينة تسميتها كلّما رام أحدهم الحديث عنها وعن فتيات "الكاركي" فيبدو أنهم يكنّون لها احتراما خاصا فهي لا تقف أمام عطار أو خباز أو خضار إلا وسارع في قضاء حاجتها قبل غيرها.
وقد رأيتها في آخر عهدي بها في حانوت "الحاج محمود الملاخ" سيّدة سمراء غليظة الشّفاه رجالية الصّوت قصيرة القامة ممتلأة الجسم متمايلة المشية تبادر بإلقاء السّلام على كل من يعترضها ويبدو انه أكرمها ولم يأخذ منها الأجرة نظير ما قام به.
وهذا المحلّ الذي تديره "امك فطوم" كانت قد انتقلت اليه أخيرا فهي تبحث عن شارع نابض كثير الجلبة وتخلصت من المحلّ القديم الذي كان بآخرالبلدة . فباعته الى أحد أعيان البلاد "الشيخ محمد" الذي حوّله الى مسكن يقيم فيه مع أسرته بعد أن أقام فيه "حزب اللطيف" وذبح "بركوسا" أحضره زوج اخته من البادية
و"الشيخ محمد" هوأحد" مشايخ التّراب"أيام الحماية الفرنسية
أوالعمدة ، التسمية الرسمية بعد استقلال البلاد
وكان "الشيخ محمد" رجلا ضخما أبيضا مشربا بحمرة يضع نظارات طبية ذهبية اللّون زادته بهجة وأناقة مع ساعة مستديرة في معصمه نوع "هرما دو ليكس" وتراه في آخر عهده ينزل من سيارته ال "بيجو 504 "ببلوزته القمراية "وسرواله الأبيض "القولف" وهو يعدل "عراقيته" البيضاء فوق رأسه متّجها الى نادي القناّصة حيث يلتقي بأعيان المدينة وإطاراتها.....
لكن "أمك فطوم" عندما انتقلت الى محلّها الجديد
لم يكن بوسعها اعلام جميع زبائنها الذين كانوا يهرعون الى المحلّ القديم يرومون دخوله على عادتهم ...
وذات مرّة
ارتفعت الأصوات وعلا الصّياح انّه "الشيخ محمد"وحرفاء الغفلة رواد الماخور القديم ، فقد أخذ الشخ يشتمهم ويسبّهم. فيقسمون له أنهم على حسن نيىة فيهدّدهم باطلاق النّارعليهم من مسدسه الذي افتكّه من أحد اصهاره كان قد وجده اثناء الرعي وبعد أن هدّد الشيخ و توعد هم بالحبس ... هدأ روعه ، أرشدهم الى مكان المحلّ الجديد
وقد تكرّر الموقف أكثر من مرّة مما حدا بالشّيخ الى تعيين أحد عمال الحضائر مرشدا واقفا أمام بيته ليلا نهارا يعترض كل طالب خدمات المحلّ فيرشده الى المحلّ الجديد ويحذره من بطش الشّيخ "الحزار"على أهل بيته مع أنه صاحب نزوات وصولات وجولات...
نصر العماري
Reactions

تعليقات