القائمة الرئيسية

الصفحات

المسافرة من والى بلاد العرب - مهند كريم التميمي


في تلك البلاد البعيدة ..
تدعى بلاد العرب كانت ..
هناك سيدة تبحث عن ملاذٍ ..
لتستقر به بعد وفاة أبيها المسن ..
و كانت وحيدته من والدتها التي توفت ..
قبل ثلاثين عام بعد ولادتها ..
إلتقيت بها صباح هذا اليوم في إحدى المقاهي التراثية بالمدينة و كنت أرتادها منذ ثلاثين عاما . كانت تقف أمام المقهى . تتفرّس في وجوه العابرين من حولها بنظرات حزينة . كان الوجع يطلّ من عيونها . و البؤس يتجلى في ثيابها الممزقة القديمة . كانت تحمل على رأسها حقيبة صغيرة لا أعلم ما كان بداخل تلك الحقيبة التي تلونها الأتربة و بقايا مخلفات تلك الأمكنة التي كانت مرّت بها تلك السيدة اليتيمة . توجهت إلى داخل المقهى تحدث كل من في المقهى . منهم من عطف عليها و أكرمها . و منهم من أشاح بوجهه عنها ..
حتى أقتربت مني و قالت :
أنا من بلاد العرب أولئك الذين يدعون بالشرفاء ..
تغربتُ عن أهلي و خلي للبحث عن ملاذ أمن أسكن به ..
و أستطيع إيجاد عملٍ مناسب لي كي أستطيع العيش بشرف ..
لم أمد يدي إلى أحد ليعطف علي عطفا قد يكون مقابله باهظاً ..
سحبتُ الكرسي و طلبت منها أن تجلسُ على طاولتي ، فأنا من يجب أن يقف إجلالا لها . و أنا من يجب أن يقف لسماع ما تحمل في جعبتها من أهوال جاءت بها إلى هذا المكان . قدمت لها أكلاً و شراب . ثم طلبت منها أن تحدثني عما جاء بها . أكلت و شربت .. ثم لزمت الصمت مكتفية بالنظر لمن حولها ..
قلت لها : ألم يكفيكي الطعام أو الشرب ..
أجابت : أنا أحمد الله على كل شيء ..
حتى في جوعي و عطشي لن أطلب من أحد سواه أن يطعمني و يرزقني كما رزقني بك هذا اليوم ..
قلت بخجل : الحمد الله على نعمته التي أنعم عليّ بها اليوم و غدا و أبدا حتى الممات ..
قالت : سأحدثك عن بعض ما جاء بي إلى هذا المكان لكني أطلب ألا تقاطعني ..
قلتُ لها :تفضلي سألزم الصمت ..
حتى نهاية حديثك !!
قالت أنا : بنت فلان ابن فلان الفلان ملك في إحدى البلاد العربية التي أنتمي إليها . و كان أبي أحد ملوك تلك البلاد البعيدة . و بعد ولادتي بخمسة أيام توفت والدتي التي عشت يتيمة وحيدة بعد وفاة والديها في إحدى الحروب التي نشبت نيرانها في جميع البيوت من حولها حتى قتلت الكثير منهم و ضرت الكثير و لم يسلم أحد من شعب تلك البلاد كأن الله خسف بها الأرض جراء عاداتهم و تقاليدهم البائسة الطاغية المميته التي كانوا يتعاطونها و يسلكونها ك الظلم و الجوع و العهر و الفساد و الضلالة و هدم الإنسانية . و كان أبي ذلك المحارب الشجاع الذي قضى على الكثير منهم ليوقف فسادهم و طغيانهم و بأسهم . و ذات ليلة سوداء مظلمة في آخر الليل . قتلوه في فراشه حينما كنتُ نائمة بالجوار من غرفته حتى صحوت مفزوعة . من نومي على أصواتهم المخيفة و هم يقولون لقد قضينا على ذلك اللعين الذي حرمنا من غرائزنا طوال تلك السنين و لم يتبقى إلا أن نختطف ابنته الوحيدة و نجعلها جارية لنا لننعم بها طوال الوقت حتى ننجب منها أطفالا كثيرين لنتاجر بهم حتى نجعلهم مورد رزقٍ لأيامنا السود . ثم خرجوا من الدار مدبرين يلذون بالفرار أما أنا . فحملت حقيبتي هذه هاربة منهم فوجدت نفسي أعبر الحدود و البلدان حتى وصلت إلى هذا المكان حاملة أغلى ما أمتلك . و هو شرفي الذي تركه لي أبي بعد ما قتل من قبل تلك العصابات الهمجية التي قتلت كل من يدافع عن الإنسانية و السلام أبحثُ عن مأوى يحميني من الجوع ..
و العطش ..
و برد الشتاء ..
و حرارة الصيف ..
اللاذعة التي يبست جميع تفاصيلي ..
بكت ثم حملت حقيبتها قائلة : هذا أبسط ما يمكن أن أخبرك به ..
قلت لها : لما أخبرتني بأن والدك توفى و قد قتل من قبل تلك العصابات المجرمة ..
قالت : لأنني لا أومن بأن الأنسانية على قيد الحياة حتى الآن . و أنا أخاف أن يجدني أحدهم . و أخاف أن أقول حقيقتي لأن في ذلك خطر عليّ . فقد أقتل كما قتل أبي من قبلي . ودعتني بدموعها الطاهرة النقية ثم خرجت من المقهى تتلفت يمنة ويسار خائفة تبحثُ عن أمانٍ تقضي به ما تبقى من حياتها لتبقى خالدة النفس طاهرة الجسد مخلدة في الذاكرة إلى يوم يبعثون ..

Reactions

تعليقات