القائمة الرئيسية

الصفحات


نزل في الصّباح للتريّض بالسّير في شوارع المدينة ويبدو أن كلاما يُشبه الحلم قد مرّ فوق مسامعه، فقاده إلى حيث شاءت يدُ القدر وانتهى به المطاف إلى الحدائق العامرة بجموع المُتنزهين، قرب البحيرة السّاكنة حيث يسبح البط والإوز وطيور النّحام الوردي تتجوّل باحثة عن قوت أو تقف على سُوقها الدّقيقة وأعناقها الوجلة تتلوّى ذات اليمين وذات الشمال، والبجعات الثلجية تعبث بأجنحتها التي تحاكي أشرعة المراكب وتنزلق في المدى الرّحب لعمق البحيرة فتنساق رعشات المياه خلفها بتموجات تلاحق جسدها القطني، فلم يشعر إلا وكفّ صبي مُشرّد تستعطفه طلبا للقليل من المال. كان الصّغير يتابع صرخات بائع مُتجول يدفع " برويطته " ويهرول مُبتعدًا، مُتطلعًا إلى أعوان التراتيب البلدية، خشية مُصادرة رزقه أو تعرضّه إلى الإهانة و" الصّفع " فتحسّس وجهه كأنّمَا يحميه، وخفُت صوته الذي ظل يُنادي من بعيد " كاكي كاكي كاكي ".
تضرّع الفتى قائلا:
- أرجوك يا سيّدي، هبني بعض المال أشتري به كاكي، أقذفه للبجعات.
ناوله هاشم بغيته وأجزل له العطاء فاندفع يركض ويتنطط فرحًا والقطع المعدنية تنسلّ من بين أنامله وتتبعثر فيجثم على العشب مفتّشا عنها في لهفة، لكن الوقت لم يُسْعفه فيجتثّ قبضات من العشب ويهرول ناحية الصّوت. من أطراف تلك المياه الناعسة وفي الجانب الجنوبي الذي غصّ بسيقان القصب، تردّدت زعقات مُفزعة وفوضى من الخفقان بالأجنحة، وبرزت من عمق الدّغل بجعة صغيرة، تسبح القهقرى على مُؤخرتها المغروزة في الأوحال الضّحلة ثمّ تتدرّجت نحو الأعماق وقد صدّتها كثافة المياه الثقيلة فكانت تنحرف في كل مرّة إلى وجهة مُغايرة، مدفوعة بهياج عصبي وجناحاها يُصفّقان بحركات عديمة الإيقاع. هاهي تنقلب على ظهرها، فتسكن حركتها بُرهة وعنقها مُشرئبّة صوب السّماء وعيناها تبرقان من شدّة الهلع وكلما عاودتها رغبة الانتفاض همّت فلم تقدر وقلّ عزمها وفتر عنفوانها حتى كادت في الختام أن تبدو ميّتة.
تراءت في زاوية بعيدة من البُحيرة، بجعة كبيرة سوداء تشوب أجنحتها المُشرعة لمسات رمادية، تتقدّم في حركات عنجهية ملؤها الخيلاء، فما إن رصدتها حتى اندفعت نحوها فلم تخطئها وأغشية مخالبها تصفّق فوق صفحة الماء الذي تطاير برشاش عنيف، جعل جوقة الطيور المفزوعة من حولها تزدحم في الفضاء ثم أطبقت منقارها العريض على عنقها الذي تراخى نحو الماء وكادت تبتلع رأسها في قضمة واحدة وطوّحت بها يمنة ويسرة فلم تبد المسكينة حراكًا ولم تدفع عنها صولة المُعتدية التي جرّتها إلى القاع حيث تزداد المياه القذرة دكنة وغاصت بها إلى المجهول فتغرغر الماء بأنفاسهما وثاخت صفحته تحت ثقل جسديهما، ثم سكن كل شيء وطال مُكوثهما في الأعماق فوق ما تتحملان وكانت الفقاقيع تطل من حين إلى آخر وتنفثئ وهاشم يقطعُ أنفاسه مرّات ومرّات ليتنبأ بزمن انبعاثهما ولم تأت المقادير بالخبر اليقين وتموّج الماء من جديد وأسفر عن جسدين منهكين. دوّت زعقة نهائيّة فاترة أطلقتها البجعة الصّغيرة البيضاء وكان الدّم القاني يسيل على جانبي عنقها المُرتخي وحين كانت السّوداء تستعيد طاقتها على العُدوان، جاءت الحركة الفُجْئيّة من البجعة الصّريعة التي هوت مُتعمّدة بثقلها صوب القاع كأنّما تقوم بفعل انتحاري… !، فالتوى عُنق المُهيمنة بدوره صوب المجهول.
------
متابعة / سهام بن حمودة
Reactions

تعليقات