القائمة الرئيسية

الصفحات

حرقة
كان المطر يروي الأرض بدمع سكيب يرقص له أديمها جذلان و تتفتح له مساماتها منتشية بلقاء رذاذ تتشربه على استحياء و السماء تتهدل بمرايا الماء كزجاج كريستالي منضود يهمي فيلامس الحيطان و الطرقات بمواويل و أهازيج الغيوم الحبلى فيحيل الطين طميا يسابق المنحدرات في عزف منفرد يروق السامعين و زخات متواصلة تتراشق بوح النوء لنهار هادىء يركن فيه الجميع إلى الراحة في انتظار الصحو ليستأنف العمال أشغالهم بالضيعة و تنتشر الأغنام في المراعي و تصدح العنادل و النوارس بالغناء .
في هذا الطقس الممطر يخرج العم محمود من بيته خلسة قبل أن تستفيق زوجته ليعود محملا بهدايا أرسلها حاتم أصغر أبنائهما من بلاد الغربة عندها فقط تلمع عيون الأم المريضة و تهتف قائلة :"ألم يرسل ابني رسالة هذه المرة أيضا؟ كيف يستطيع صبرا على فراقنا و أخواته الثلاث ينتظرن رجوعه على أحر من الجمر ؟ألم تكتب له في آخر رسالة بأننا نتشوق لعودته لنقيم زفاف علياء المؤجل منذ سنتين؟ "
يرد الشيخ بصوت متهدج خنقته العبرات و هو يحاول عبثا مداراة وجعه بالقول :"كيف له أن يعود و هو لم يتحصل بعد على ورق الإقامة الدائمة هناك؟ إنه يصل النهار بالليل و يعمل جاهدا لتوفير ثمن السيارة الفارهة التي وعدك بها بعد أن سدد كل الديون التي تكبدناها عند سفره ."
فتجيبه و السخط يعلو محياها :"لا أعرف لماذا لا تصطحبني معك عندما تذهب الى المدينة لتهاتفه ؟يجب أن يعرف أنني أستعيض به عن كل رفاهيات الدنيا و أنني حرمت لذة الكرى منذ رحيله .لقد استبد بي الشوق و لم أعد أقوى على الانتظار أكثر و قد صرت أخاف قرب المنية قبل أن أكحل جفوني بمرآه. "
و دون أن يجيبها و بلا اكتراث متعمد و هو يحاول لفت انتباهها إلى العطر الفرنسي الفاخر يبتسم ابتسامة شاحبة و هو يرش على عنقها رذاذه الفواح و يهمس بحب :"حاتم ابن أبيه فذوقه راق مثلي . انا اخترت أمه أجمل النساء و هو اختار لك أفضل العطور. "
شرد العم محمود مع بكاء السماء يهمي بلا ضوضاء كأمواج حزنه المتلاطمة بين حناياه و هو يعيش تفاصيل فاجعة أقضت مضجعه فقد غرق المركب الذي أبحر خلسة و على ظهره حاتم و رفاقه السبعين الذين كانوا يحلمون بتحقيق كل طموحاتهم على الضفة الأخرى من المتوسط بعد أن سئموا بطالة فرضت عليهم فتكسرت أمنياتهم و هم يصارعون زبد بحر غدار أبى إلا أن يقبر بعضهم و يلفظ البعض الآخر بعد أيام من البحث المضني جثثا متعفنة بلا أوصال مطموسة الملامح و مجهولة الهوية لتشهد أسرهم معاناة مريرة و يجري أولياؤهم تحاليل مخبرية تثبت انتسابهم و تقطع الشك باليقين قبل أن يدفنوا معهم آمالهم و أفراحهم الى الأبد.
ينظر الى زوجته بتحنان و هو يحاول رسم ابتسامة طمأنينة عساها تنفذ إلى نياط قلبها المطعون الذي تمزق يومها تحت وطأة خبر تلقته معه كرشق نبال حادة فوجدها قد عادت إلى حالة التوهان التي رافقت فجيعة استوطنت صدرها لتسبح في فراغ مؤبد و تغيب عن العالم حولها و تتلاشى ذاكرتها المصعوقة فتستسلم صاغرة لصمت مطبق يدوم لأشهر أحيانا فتتحرر من حزنها و حنينها لتتركه يجابه ألم الفقد وحيدا بعد أن اختار الاستقرار معها ببيتهما الريفي البعيد عن المدينة لينأى بها عن نظرات الجيران المشفقة و همساتهم الخفية عن حالة جنونها و ليقطع مع كل الذكريات التي تزيد عطب وجع مستتر بحناياه ما انفك يتشظى له مخبوء فؤاده .أطلق زفرات محمومة و هو يمرر أصابعه على جبينها المتغضن بتجاعيد تركت رسم جمال آفل و هو يحسدها على نعمة فقدان جزئي للذاكرة و يعض على قلبه كمدا كمن يقبض جمرا و هو يلوم نفسه على كل الأكاذيب ألتي سكبها على سمع أم ثكلى ليهدىء روعها و لتعيش على أمل رجوع فلذة كبدها بعد أن سلمت كل أسلحة جسمها الدفاعية و استسلمت لمارد النسيان لتصبح كورقة تتلاعب بها رياح خريف عمرها المكلوم.



منى البريكي/ تونس
Reactions

تعليقات