القائمة الرئيسية

الصفحات

قصة "ثلج و قشابية " من كتابي "رتق الروح" انشرها وانتظر نقدكم و رأيكم - رياض جراد

ثلج وقشّابيّة
كنت أحبّ الثلج وكنت تمقته، لطالما خالط فرحي بنزوله حزنك. لم أستطع فهم سرّ كرهك له فأحاججك:
- انظر يا أبي! السّماء تمطر صوفا لكنّه أبيض ناصع بلا شوائب، إنّه لا يشبه صوف خرافي، هل تجزّ السّماء خرافها يا أبتي؟
- خرافك تجزّ صيفا، والسّماء تجزّ شتاء يا ولدي، ولا يخدعنّك بياض صوف السّماء ولينه، إنّه جميل بطعم الموت يا حبيبي، ألا ترى لين ملمس جلد الأفعى وتناسق ألوانها وهي تسقي السّمّ الزّعاف؟
الأشياء كما النّاس، لا يمكنك أن تفهم كنهها إلّا إذا تمرّست بها. انظر يا ولدي! إلى صوف السّماء إنّه رغم شدّة بياضه قاس شديد البرودة، وصوف خرافك المشوب بسواد التّراب دافئ يحمينا من غوائل العواصف والأنواء.
كنت تلبس قشّابيتك وتجلس على عتبة المنزل، ترسل بصرك في بساتين القرية والجبل الماثل على أطرافها، ترمقني من طرف خفيّ بعين الرّاعي وأنا أكوّر الثّلج وألقي بالكريّات أبعد فأبعد إلى السّماء، فأردّ لها صوفها وقد غزلته أناملي، أصنع من الثّلج رجالا ونساء وأطفالا وطيورا وخرافا.
عندما يتسلّل البرد إلى أوصالي وتتجمّد أطرافي، أركض إليك، فتدخلني تحت القشّابية وتطوّقني بذراعيك فأخرج أنفي من فتحة الصّدر في القشّابية أستنشق الهواء وأشاركك تلك النّظرة الحكيمة علّني أفهم كرهك للثّلج وأقول:
- ألا ترى يا أبي جمال هذا البياض؟
- لكنّه يلقي عتمة على الألوان، فيطفئ بريقها ويحجب جمالها.
- لقد صارت الأرض عروسا عندما اكتست ببياضه، إنّه يحمل الخصب.
- أيّ عروس يا ولدي وهو جاثم على القرية لا يغادرها إلاّ إذا قدّمت أحد شيوخها قربانا إلى المقبرة؟
أفتح سلسلة القشّابية، وأخرج رأسي، فتبدو كالكنغر يضع ابنه في جيبه الأماميّ، فأسعد بحضنك وأنعم بالدفء وأفكّر وقد أصابتني عدوى الحكمة، كيف لا يذوب الثلج إلاّ إذا قدّمت القرية أحد شيوخها قربانا؟ ظلّ السّؤال بلا جواب إلى أن أخذك الموت منّي ذات بياض كسا الأرض ...
حزم والدك حقائب السّفر فأدركه، كانت هذه الجملة تهزّني وأنا أتخيّل بشاعة الحياة في غيابك، كلمات صعقني بها أحد زملاء الدّرس. فزعت إليك أطلب لقاءك… ارتعشت مفاصلي وأنا أجلس داخل الصّندوق الخفيّ لشاحنة النّقل الرّيفيّ إنّه شتاء كسرى القاسي، ولا تأتي نوائبي إلاّ في فصل الشّتاء.
كنت جالسا على حصير حين رأيتك تتدثّر بغطاء صوفيّ، تضع كانونا بين رجليك، وترسل نظرك من خلال
الباب تتأمّل زياتين بكّرة، كأنّك تسترق لحظات من الدّفء والأمل... وجهك شاحب وجسدك أصابه الهزال، أبصرتني فتهلّلت ثمّ سألتني:
-لم جئت يا فتى ؟
-قيل لي إنّك اعتزمت السّفر و إنّي لن أدركك إذا ما انتظرت موعدك…
- سأرحل يا فتى… لا شيء هنا فقط بؤس وحرمان …والقرية تحتاج قربانا، ألا ترى أنّ السّماء تجزّ صوفها؟
- بيتنا يؤثّثه الحبّ، و تزيّنه القناعة
- هناك القصور… والبساتين… ولا مرض، ولا شقاء، و لا سماء ينمو لها صوف
- لا أحتاج القصور والبساتين …بل أحتاجك أنت، هنا الودّ، أضع رأسي على ذراعك ورجليّ بين فخذيك
وأنعم بحضن باطنه الدفء وظاهره أنت... نظرت إليّ مشفقا، ثمّ احتضنتني بذراعين هزيلتين، وداعبت شعري بأصابع مرتعشة، وهمست:
- لن أسافر…عد إلى درسك يا حبيبي ! وبعد رحيلي أخلفت موعدي…آه يا حبيبي! لم حرمتني فرصة وداعك؟ أتذكر يوم أصابتني الحمى وأصابتك العلّة، وفضّلت علاجي بما كنزت لغوائل الأيّام، وبقيت عليلا، وحين لمحت قهري وغبني قلت لا تبتئس يا قرّة عيني! غدا تصير طبيبا وتداوي عللي... ها أنا أحمل سمّاعتي… لكنّي لا أجدك كي أعالجك… يا حبيبي، لم حرمتني فرصة علاجك؟ جمعت ها هنا المال لحجّك كما وعدتك يوم اقترضت المال من أجلي، وحين رفضته قلت إنّك تدخر المال عندي لحجّك …يا حبيبي، لم حرمتني فرصة ردّ دينك؟ فرصة، فرصة، فرصة ... قصّتي معك قصّة فرصة، في كلّ مرّة بقدر عطفك وكمال عطائك، تحرمني الفرصة.
لم يتبق لي بعد رحيلك إلّا أن أركض خلف جنازتك … تسلّل البرد إلى أطرافي ويبست أقدامي... لا أحد اهتمّ لأمري من مشيعيك، ففي الجنائز لا تهتمّ قريتي بالأطفال...أطلب قشّابيّتك أدخل فيها ولا أجد ذراعيك يطوّقانني…
ها أنا يا حبيبي ألبسها كلّما جزّت السّماء صوفها، وأرقب ابني وهو يكوّر الثّلج ويلقيه إلى السّماء ويصنع تماثيل بلا روح، وحين تتجمّد أطرافه أدخله في جيبي كالكنغر، وأحدّثه عن الثّلج الّذي يجرف شيوخ القرية إلى المقبرة…
-----
متابعة / سهام بن حمودة
Reactions

تعليقات