القيروان:
(بين الحاجب والعيون متاهة المعنى)
...تطوي عجلات السيّارة طريقًا محكومةً بالطّيّاتِ والمنعرجات أمّا سوالفها فيانعة حينًا وجدباء أحيانًا ، عافتها الدّواب فلا راعيَ ولا مرعيَّ. ويدرك المطّاط المليء هواءً وهوًى ومُثابرةً طريقًا هضبةً يتحسّس من خلالها الحاجب... تأخذك غفوةُ السّفر لهُنيهةٍ حتى تدرك علامةَ استقبال إلى يدك اليُسرى فـ"الحاجب ترحّب بضيوفها الكرام" على جدار أعوج، تدلف من خلاله إلى ثنيّة توصلك المدينة، وقد وُطّئت البيوتاتُ فيها تواضعًا وقلّةَ حيلةٍ. تفتح على هذا الشّارع الذي وُلد رئيسا، مؤسّسات شتّى كمِخْفَرِ الشُّرَطِ والمعهد الثّانويّ ومحطّة البنزين ومقاهٍ تلفظ روّادها على قارعات الطّريق. أمّا السّابلة فتمضي في غير هدًى. فكلّ الاتّجاهات مقاصد. تزين المشهدَ حُشودُ التّلامذة الضّاجّين في وئام وبسماتٍ حَيِيّةٍ. ها هي الأنهج تضيق عن العربات التي تهرّم أغلبها. أمّا صفوف البنيان فبدت كأفواه الشيوخ أدرد أكثرُها. فكلّ ما تقادم من البنايات خَرّ أرضًا ورضيَ بحاله تلك صبورا كسنم العِيرِ الكَئيبة. تكثر المتاجر البسيطة في الشّارع الطّويل وفي كلّ ما تفرّع عنه من أنهج. والحركة هناك دؤوب والوجومُ يصارع البشرَ لعلّه يحوزه، ذات غفلة لإله الخصاصة.
تاريخ الحاجب مديد كشارعه والجغرافيا منبسطة كراحات أهله كرمًا.فالعيون مِدرارٌ وإن شحّت السّواقي.. وقلبُ المدينة كقلوب الفاتنات النّادرات مكمنه إثر منعرجات وتطويحات.. تنتهي إلى القلب الكبير في بناية كبيرة سامقة، انتظمت بداخلها رفوفُ الكتب مرصوفةً في إتقان وتنضيد مُحكمين. كم يدًا مرّت من هنا ساحبةً كتابًا تطارد فيه النّفع والمعنى وتهتك ستر ما تخفّى منه بين السّطور وبين العبارات..وتشرد العيون الكحلاء بين المُجلّدات والمسفّرات والمغلّفات .. وتسبر الأغوارَ .. وتظلّ الحيلُ عجفاءَ بِيَدِ أبناء الأحراش وبناتها. غير أنّ قدرهم اليناعة والشّموخ والفوز الحتميّ وإن تعسّرت السّبلُ...
كم كانت رفقتكم ممتعةً يا بنات الحاجب وأبنائه: حليمة والمنجي وهيام وإشراق وأحلام ومرام وسيرين ورهام ووجدان وفرح وهالة وليندا والفرسان الصّامتين... ما أبهى الحياة التي نسجتم بعينيّ... أهديكم أجمل المُنَى وعبقَ العِطرشاء وأظلّ أعتذر...
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع