القائمة الرئيسية

الصفحات

في تلك الليلة اشتدت بي الاوجاع ..سرت رعدة في كامل جسدي..لم استطع ان اتحمل شعورا باني اتهاوى..احسست ليلتها بان الاشياء من حولي بدات تتضاءل شيئا فشيئا ..بل اشد ما كان يؤلمني اكثر من الالم الجسدي نفسه شعوري بان الاشخاص من حولي لم يعد اعني لهم شيئا. فهمت ليلتها انك لكي تعني شيئا يجب ان تكون معافى و انه من الوهم الاعتقاد بان الذين اعطيتهم من عمرك سيذكرون لحظة انهيارك ماثرك. كل ما سيفعلونه كما فعلوا ليلتها انهم سيسارعون الى اعداد معدات ووسائل الرحيل؛ المغسل و الكفن والحفرة التي ستبتلعك ...و سيتقبلون تعازي الناس و قد لا يفعلون احيانا.
الالام تشتد واحساسي بالنهاية بدا واضحا. سمعت صوت زوجتي تدعوني الى نطق الشهادتين : وحد مولاك يا راجل. بكلنا ليها. .. اصوات اخرى : هزوه للسبيطار..بردوا على قلوبكم...واخرى : مسكين !!!! ...و اصوات اخرى اختلطت باصوات العويل ؛ موش وقتو لموا دنيتكم .... صوت اخر و بنبرة حازمة : عندكم الذبيحة والا نبعثو نجيبو!!...
فجاة تختفي الاشباح المتناثرة في الغرفة و يشع نور قوي يختلط بضباب بارد ..وتسكت كل الاصوات ..و تسري في جسدي برودة خفيفة احسست بعدها براحة و تنتابني مشاعر فرحة و شعور بالغبطة... لا اثر للاوجاع ...لم اعد اشعر بجسدي ..لا ادري مالذي حصل ..ما كنت ادركه جيدا اني قد انفصلت عن كتلة اللحم و العظام التي كان وعيي يسكنها. 
اين انا؟ كان سؤالا ينبعث من وعيي الذي لم افقده لحظة واحدة. شعرت برغبة قوية في التحرر من سجن الغرفة التي توهجت بشعاع النور المتسلل بين ثنايا الضباب الكثيف....كنت ادرك كما كان ديكارت يقول في تاملاته ان هذه الغرفة غرفتي ( طبعا انا استعير اسلوب ديكارت وليس الفاظه) وان الاصوات التي كنت اسمعها كانت اصوات عائلتي و جيراني... لكني لم استطع ان اتبين بان الاشياء ما زالت كما هي قبل الاوجاع. نعم انا ارى يدايا و صدري و رجلايا لكني انا واعي تمام الوعي بان لا صلة لي بها. لا اسكنها.غريبة عني....
من انا و اين انا؟ اين اختفت الصور و الاصوات؟
استيقظت فجاة. وجدتني في غرفتي وحيدا و الظلام يلفها... قفزت من الفراش خفيفا وقد اختفت الالام..اشعلت النور..كان كل شيى عاديا ..الاشياء المعتادة في مكانها...لم استطع تبين الوقت...غير ان رغبة في الخروج الى المقهى رغبة تدخين سيجارة تملكتني في تلك الساعة. كنت نشيطا خفيفا مندفعا و قويا..تملكتني ايضا رغبة في القاء نظرة على زوجتي و اولادي ..عندها قفز تساءل حائر الى راسي : اين هم؟؟
الجزء الثاني : الرحيل 
أين هم ؟ 
كنت ادرك جيدا اني موجود – هنا في غرفتي و ان كينونتي (كما كان يردد '' هيدجر'') التي يقع على عاتقي مهمة تحليلها هي دائما ملكي ,,,, لكن ما هو الوجود اصلا؟ باي معنى اكون موجودا ؟ انا في غرفتي وحيد ... لا أعلم على سبيل اليقين ان وجودي هنا في غرفتي هو وجود حقيقي ,,, بدت لي الاشياء كما تركتها هي هي ,, لكن لا ادري لماذا ينتابني شعور جارف بانها ليست كما تبدو عليه... و لست ادري لماذا طغى علي شعور بان الاشياء الموجودة في الغرفة لا توجد خارجا عني بل هي في ذاكرتي . و ان لا أثر لها في الخارج؟؟؟ هل يعقل هذا .. ؟؟ و قفز في ذهني التساؤل من جديد : اين عائلتي : اين اختفت زوجتي و الاولاد؟ رأيتني فجأة ارتفع بقوة دافعة الى الاعلى في حركة دائرية كمن تحمله موجة جارفة من الضوء و شعرت بما يشبه اليقين اني خارج قوة الجاذبية خفيفا نشيطا كريشة تهزها الريح دون ارادة ,,, عندها و انا ارتفع الى الاعلى ادركت اني كائن لا اتحرك في المكان فقط .... بل و لاول مرة أدرك اني أتحرك خارج الزمن .... كانت فكرة كوني كائن خارج الزمن يتحرك في مكان مرتبط بالزمن تثير في داخلي مشاعر الرعب ,,,, هي صورة لا تتطابق الا مع صورة الالهة ,,,, لكنها في نفس الوقت فكرة تدعوني الى السخرية من ذاتي ,,, اذا لم اكن الها فمن أنا هذا الذي لا يشعر بالزمن و يتحرك في المكان ؟ تمالكت نفسي و حاولت اعادة ترتيب الاحداث وفق منطق الزمان و المكان ...فوجدت ان حالتي لا تستقيم معها احكام المنطق . انا خارج المنطق. شعرت للحظة اني و انا ارتفع في السماء اني قادر على اختراق اللامرئي. , انا ادرك الان على وجه اليقين اني أرى اللامرئي و أسمع اللامسموع ,,,, بضرب من الحدس الذي لا يفسره عقل . اشعر الان و انا اندفع في موجة ضوء متدفقة اني قادر على اختراق الحدود الزمنية ... اراني كمن يخرج من كهف مظلم مغلق الى فضاء لامتناه. ارى الاشياء الان بوضوح : جمهرة من افراد العائلة يتحلقون حول جثة مسجاة وسط الغرفة ,هذه زوجتي تنتحب محتضنة كتلة اللحم الملقاة امامها و قد برزت الخدوش على خديها ... ها هما الان ابنتاي تلقيان بنفسيهما على الجثة الباردة تصرخان في حركات هستيرية . لهيب شوقي لاحتضانهما لا ينطفأ : كم احبكما ... انا هنا , انظرا الى الاعلى ,,, ما تريانه امامكما مجرد كتلة لحم و عظام ...ليست ما تحسبانه والدكما ... 
كانت افواج الزوار تتدفق على الغرفة ...وكنت انساب بينهم في خفة الضوء اسمع وشوشاتهم :
_ الله يرحمو مسكين هزبنا الناس الكل 
صوت اخر : يا خا رنختو الحمص ؟ ... و يصلني صوت اخر : خرجوا النساوين من البيت خللي المدبية تدخل تقرا 
صوت اجش كم اكرهه منذ عرفته كائن يتغذى على موائد الموجوعين : جبتو الشامية و السكر : 
أرتفع اكثر بقوة موجة الضوء فاجدني امام الاف الامواج المنطلقة في الفضاء اميز وجوها من كنت اعرفها : والدي والدتي جداتي الاتي لا اعرفهن اخوالي و أعمامي الذين فارقوني منذ امد,. لا يكبلني زمن ,,, ادرك اني قادر على العودة الى الماضي بل ان ارحل في المستقبل بلاموانع. لكن ما الزمن ؟ انه علة التسابق و التلاحق في الوجود و المكان علة التكثر و الافتراق في الحضور فهما سببان لاختفاء الموجودات بعضها عن بعض,,, لكن كيف يمكن ان تلتقي البشرية رغم تباعدها في الازمان و الاماكن في لحظة واحدة و في مكان واحد ؟ الان ادرك اني ارحل خارج الزمن فتنكشف لي الاشياء على حقيقتها : انا اسافر في موجة نور الى قوة خارقة طالما خاطبتنا عبر الكتب و الانبياء. 
تذكرت قوله تعالى : ''ان الاولين و الاخرين لمجموعون الى ميقات يوم معلوم '' كيف تلتقي الخلائق ؟ تصورت خيمة مغلقة يدخل ايها افواج من الناس في الوقت الذي تخرج منها افواج اخرى من الجهة الاخرى و في لحطة ما ترتفع الخيمة و تتمزق . ماذا سيحدث ؟ الاولون و الاخرون سيلتقون في لحطة ما و في مكان ما . لم استطع ان استوعب اني الان في زمرة من خرج من الخيمة ... عبرت فضاء المنزل مخترقا كالضوء افواج المعزين الحزانى و اشامتين .. توجهت بقوة دافعة الى حيث المراة لاتاكد من قناعة ترسخت في ذهني : هل عبرت الى عالم الخلود ؟ واجهت المراة لارى نفسي .... يا للهول اني لا ارى شيئا ,,انا بلا وجه انا لا شيء ... لا وجه لي ,,, لا ارى غير الفراغ القاتل ... من انا ؟؟ اين أ،أ ؟ انا طيف لا يراني احد ... ليس لي وجود مادي ... لم تعد المراة تعبأ لغياب وجهي . انا بصدد الرحيل ... انا متيقظ الان اكثر من اي وقت مضى... انا ارحل خارج الزمان ,,, خيالات الماضي بدأت تختفي ... لم تعد عائلتي و من رافقوني يوما سوى غبار من زمن سحيق لا قدرة لي على استرجاعه؟ و في لحظة فارقة تتلاشى من حولي الخيالات و الصور و تبدا اصوات الهادرة في البيت في الاختفاء تدريجيا. طلام كثيف يلف ما حولي .. صمت رهيب يكتنف ما حولي ... و لاول مرة ادرك اني بدات رحلتي الى عالم اكتشفه لاول مرة كما اكتشفه من سبقني في رحلة طويلة نجو الخلود. انا الان معلق في سماء غريبة موحشة انتظر لحظة الحساب .

Reactions

تعليقات