القائمة الرئيسية

الصفحات

الْمَقامةُ الدُّعائيّة - هشام الهرّابي


حَدَّثَ رَوْزَقَهْ قالَ: كُنتُ عائدًا إلى المنزل أدندِنُ بعضَ الألحان حامِلاً مَعِي لِتْرًا مِنَ الزَّيْت ومِثلَها ألبان وبَعْضَ الأجْبان ، و إذَا بِصَدِيقٍ لي حَمِيم يَتهوَّكُ و كأنَّ نَهارَه لَيْلٌ بَهِيم، فَخُطُواتُ رِجْلِه مُتفاوِتة و حَركاتُ يَدِه مُتماوتة. فَعالجْتُه بالسُّؤال و لكنّه بَدَا لِي خالِي البال. فهو عاجِزٌ عن التَّفكير حائلٌ دُون التَّنوير، عَن الكلام لا يَجْرُؤ و مِن سَقَمِه قَدْ لا يَبْرَأ. فَقُلْتُ: ما لِي أراكَ مُفَكَّكَ الأوْصال مُثَبَّطَ الأفْعال مُتَلَعْثِمَ الأقْوال؟ فقال: لقد نَفَذَ فِيَّ الدُّعاء سيّما دُعاءُ الأتقياء النَّازِلُ عَلَيّ مِنَ السَّماء. ألَمْ تَرَ كَيْف أخْبِطُ خَبْطَ عَشْواء!؟ فقلت:ُ كيف جَرَى ذلك؟ و مَتَى؟ و لعلّكَ لَمْ تَطلُبْ لِنَفْسِكَ هُدى! فأنتَ في حَرارة لَظى! فقال: أنتَ دائمًا تَقْضِمُ المَعْنَى و تَبتُرُه و تَرَى العَيْبَ و لا تَكادُ تَسْتُرُه. و مَعَ ذلك سأُحَدِّثُك عن أمْرِي، فإنْ شئتَ فٱنْشُرْه و إنْ ٱستطعتَ فٱطمُرْه و حَبّذَا سِرًّا بيننا تُضْمِرُه، فنَبَسَ بَعْدَ زَفْرَةٍ و قال: لَقَدْ كانتْ تَصِلُنِي رسائلُ مِنْ عِنْدِ الأصْدِقاء أشقياءَ مِنْهُمْ و أتقياءَ كلّها وَرَعٌ و تَقْوَى. يأمُروُنني بِنَشْرِهَا لِمرّاتٍ تَرْبُو العِشْرين و إنْ لمْ أنفّذْ فإنّي مِنَ الأخسَرِين إلى يَوْمِ الدِّين، فَتَهاونْتُ و بَدَا لي الأمْرُ مُهينْ، فكيف لِي أنْ أُقنِعَ الآخَرِينْ الواعِينْ أوْ الغافِلِينْ أنّهم لو فَعَلُوا لَصارُوا بالسّعادة مَغمورِين؟ فأتناسَى الرّسالةَ بَلْ و أحْذِفُهَا دون أثَرٍ أو ٱستمالة و كثيرًا ما تُجوهلت حتّى ألفيْتُ نفسي مستاءة لِمَا عُوملتْ به مِنْ رَداءة و دَناءة. فَلَمْ أعْبَأ بالتُّرّهات و لَمْ أصَدِّق التَّنبُّؤات؛ كأنْ أسْمَع نَبَأ عزيز عليّ فَقَدَ الحياةَ وَ مَاتْ أو مَطلبًا يَهُمُّنِي أجَلُهُ قدْ فاتْ. فساءلتُ نفسي أيَصدُقُ الواقعُ مِثْلَ هكذا تكهّنات!؟. فَهَزِئتُ بما حَدَثَ و قُلتُ: فلْيَحدُثْ لي ما شاء و إنْ كان حَتْمًا داءً بلا دَواء. و لَكِنْ تَحَدّتْنِي الرَّسائلُ و رَمَتْنِي بأسلحتِها الرّذائل و نَكّلتْ بي -كَمَا تَفْعَلُ- بِأَسْرَاهَا القَبائلُ فَصِرْتُ مِن الضَّحايا الأوائل. و تَعاظمَت الأرْزاء فَجَنيتُ عَزاءً إثرَ عَزاء و لا رادَّ لِبَلاء و هكذا ٱستحالَ الأمرُ كَمَا تَرَى.. فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى كَتِفِهِ مُرَبِّتًا عليه لَعَلِّي أصَيِّرُ وُجُومَه ضِياء. فقلتُ له ونَحْنُ نَحُثُّ الخُطَى: دَعْكَ مِنْ هذا الهُراء. غَيْرَ أنّه على يَقين بأنّ ما فيه مِن ٱبتلاء سَبَبُه عَدَمُ نَشْرِه للدُّعاء. و في غَفلةٍ مِنْ أمْرِي تَسْقُط القارورةُ مِنْ يَدِي فٱنْسَكَبَ الزَّيْتُ في الأرض رَواء ومعها الألبانُ و الأجبانُ فِي ٱسْتِواء و هَوَيْنَا سَوِيًّا بِلاَ ٱرتضاء، فكُسِرَتْ ساقُه بَعْدَ أنْ طارتْ رِجْلاه إلى السَّماء و قَدْ مَسَّنِي مِثْلُهُ ضُرٌّ وَ كأنَّ لِنُصْحِي جَزاء رَغْمَ أبديتُ مِنْ جَفاء فارًّا مِنْ ذاك الفَضاء. فسَلّمتُ بِمَا جاء في رَسائلِه مِنْ دُعاء و قلتُ: فعلاً إنّهم قَيَّدُونا بِقَضاء إذْ كُتِبَ عَلَيْنَا الشَّقاء نَعِيشُ حَياةً ٱبتلاؤها يُضْمِرُ ٱبتلاء.
Reactions

تعليقات