القائمة الرئيسية

الصفحات


نفخ بشدة و هو يبحث في جيبه عن مفتاح المنزل ثم بدأ يبحث عن ثقب الباب في عتمة الدرج و كأن المفتاح كان يعانده أو ربما كان يحس بعدم رغبته الولوج إلى الداخل فأبى أن يجد الثقب أو ربما غار الثقب الصغير ليخبره بأن يعود أدراجه مهزوما، فلا أحد بانتظاره بالداخل سوى أشباح الوحدة و الظلام... 
أخرج هاتفه الجوال و أضاء مصباحه ليدله على الفرج و أخيرا انفتح الباب و أغلق بنفس السرعة ليجد نفسه مسجونا وسط رحابة منزله ...
أحس بثقل عظيم يجثم على صدره و راح يتحسس كالأعمى بيده باحثا عن قابس النور و لكن أصابعه المرتعشة لم تجده ، فخيل إليه أن شيئا لزجا قد لامس أطراف أنامله فسحبها مرتجفا و كأنما قد لدغ ثم استعاذ بالله من الشيطان الرجيم و ظل يحدق في الظلام الشاهق المتسع المحدق بروحه المكتئبة منذ ما يناهز الأسبوع... 
أخيرا عثر على زر النور و أشعل الضوء ... و لكن الظلمة التي انحسرت عن أركان المنزل تجمعت و تكورت و تلبسته فصارت عيناه تريان النور و لا تبصران الضوء... 
كل ليلة يصارع نفس الضياع و نفس الرغبة بالهرب من هذا المكان الذي لفه الصمت المزدحم بآثار الضحكات و بأصوات المزاليج و صراخ اللعب و نغنغتها المتكررة إلى جانب التلفاز و هي تنهرهما ليتركاها تستمع إلى مسلسلها المفضل ... أين هي كل تلك الضجة التي وترت أعصابه في السنوات الأخيرة ؟؟ لقد اشتاق إلى حد الضما لسماعها لما اختفت منذ أسبوع أو يزيد..
تهالك على أريكة الصالون، ألقى حذاءه كيفما اتفق ، ثم وضع قدميه على الطاولة .. التفت يمنة و يسرة ثم رفع عينيه إلى السقف ، و ظل يحدق بشق تذكر أن زوجته نبهته إليه مرارا ، و لكنه كان يتحاشى الحديث عنه .. و كان أحيانا يدوي عاصفا متهما إياها بالغرق في التفاصيل اليومية المملة و بأنها امرأة نكدية كسائر النساء لا تفتأ تختلق له المشاكل و المطالب التي لا نهاية لها .. فجأة بدا له ذلك الشق كصدع ال GREAT CANION في أمريكا ، و بدا له أن السقف كجبل الطور يكاد يهوي على رأسه و يطبق على أنفاسه ...
شهق فجأة كأنما يسترجع ذلك النفس الوحيد ، ثم أغمض عينيه كي لا يرى ذلك الأخدود العميق الذي يكاد يبتلعه... 
أغمض عينيه أملا في بعض السكينة لكن الصمت الصارخ بدأ يئز و يزن و يتعالى صخبه ... 
هنا ضحكة ولديه و هما يلعبان ، و هنا صراخهما و هما يتعاركان ، و هنا بكاؤهما و هما يتدللان ...
اشتااااااق لسماع صوت أقدامهما الصغيرة تقلب أثاث البيت و تحولان أرضية الغرف إلى حلبات صراع... 
اشتااااااق لهتافاتهما حالما يدخل المنزل و للحظات المعركة الأزلية: أيهما يصل إليه أولا ليرفعه عاليا مرحبا ...
اشتااااااق لتلك الأذرع الصغيرة و تلك الأيادي الصغيرة و تلك الوجوه المبتسمة ...
اشتااااااق لضحكاتهما و صوتيهما و هما يناديانه " بابا "...
هذا الصمت الفقير من السكون، الغني بآثار الأصوات الحبيبة يصم أذنيه فيستلقي فجأة على الأريكة و يضع وسادة على أذنيه عله لا يسمع شيئا...
لكنه يسمعها تناديهما محذرة إياهما من العراك بالأيدي.. ويسمعها تناديه مرارا و تكرارا لتخبره أن الفطور جاهز.. يسمعها و هي تلح عليه لتغيير قارورة الغاز.. يسمع صوتها و هي تبكي خلال فرجتها على لقطة درامية في فلم مصري قديم .. و يسمع صوتها و هي توقظه برفق في الصباح .. 
تراه اشتاق لنبرة صوتها الدافئة و هي تلفظ اسمه بحب كما عهدها منذ زواجهما الذي سيحتفل بشمعته العاشرة خلال شهرين ؟؟ تراه اشتاق لاسمه من بين شفتيها الحانيتين ؟؟ تراه اشتاق لوجودها في المنزل و رائحة طبخها و مسحها و جليها ؟؟ و هل هذا سؤال يسأله؟؟ تراه اشتاق لها ؟؟؟؟؟ 
بل انه اشتاق لرائحتها هي .. بلى و نعم و أكيد جدا.. نعم اشتاق لها جدا... أ ليست زوجته و حبيبته و رفيقة روحه؟؟ اشتاقها بين أحضانه و اشتاق رائحة شعرها و الغمازتين عندما تضحك بانفعال و الخجل الذي لم تتخلص منه يتراقص على أشفارها ...
اوووف اوووف ما أفظع هذا المنزل و قد تحول إلى قفص تكاد جدرانه تخرج أياد مخضبة بالغضب لتخنقه منذ غادرته سيدة البيت و روحه ...
غريب كيف أحس بالفرح في اليوم الأول الذي عاد فيه و وجد المنزل ساكنا جامدا لا حركة تدب فيه ...
تنفس الصعداء حينها و قال " ما أجمل الحرية و الهدوء بعد سنوات من الشغب و الصراخ و النكد"
نام ملء جفونه ثم استيقظ فتمطى كقط كسول مدلل .. أسرع إلى الثلاجة فقد كان جائعا لكنه لم يجد ما يسد جوعه .. فقرر أن يخرج للعشاء.. استحم و تزين و تعطر و خرج رفقة بعض أصدقائه مستعيدا ليالي الصخب و العزوبية..
ثم عاد قبيل الفجر إلى المنزل فالوقت لا يهم .. ليس هناك من أحد يعكر عليه صفاء ليلته بتحقيق بوليسي ..
تقلب في فراشه محاولا النوم .. تقلب و تقلب و تقلب حتى انقلب مزاجه ثم جلس فجأة و قد هزه السؤال : 
" إنها لم تتصل بي و لو مرة واحدة على غير العادة " .. تراها لا تزال غاضبة بعد الكلام المهين الذي قاله لها ليلة البارحة؟؟
قام فجأة من الفراش ، ففاجأته صورته في المرآة .. فتوقف مذهولا ، مصدوما بما ترجمته عيناه..
رجل في منتصف عقده الرابع خط الشيب عروقا من الفضة على ريش الغراب .. و قد نفر الشحم من بطنه و عظم منه الرأس .. و قد غارت عيناه اللتان رأتا العيوب في جسد زوجته، فلم يكتم امتعاضه و كال لها الإهانات مقارنا إياها بهيفاء و نانسي .. أيتها العينان الجاحدتان ، هل رأيتما الدمع في عينيها التين حُفِظَتْ صورتك فيهما كأنك راغب أو عاصي؟؟ أيتها العينان الفارغتان ، هل رأيتما الألم على الوجه الذي عانى معك محن السنين ؟؟ أيتها العينان الفاجرتان ، هل تشبعان من التراب ؟؟ أيها اللسان المسموم، أين ذهبت كلمات الحب تتلوها عليها أيام كنت تشحذ وصلها ؟؟ كيف قدرت أن تخرج لفظا يخدش كرامتها و كبرياءها ؟؟ أيها الرجل الذي تكسرت رجولته على صفحة المرآة ، انظر وتمعن و تذكر...
مضى على رحيلها عن البيت أكثر من أسبوع .. لم تهاتفه فيها مرة واحدة .. و لم يجرؤ هو على أن يبادر فيطلبها حتى للسؤال عن الولدين .. قلبه يكاد يتفطر شوقا لسماع صوتيهما الصغيرين .. و لكنه جباااان ... 
كان يمسك الهاتف و يكتب الرقم و يكاد يضغط على زر الاتصال ألف مرة في اليوم.. لكنه يتراجع في لحظة النزال الأخيرة .. كان يخاف من لحظة الحقيقة .. كان يخاف من سماع صوتها .. فيقتله الندم و الشعور بالذنب ..
كان يجلد نفسه بسوط الغياب .. ترى كم سيصبر أكثر؟؟ عليهما .. و عليها .. كم ستتعذب روحه أكثر؟؟
لكنه يذكر نظرة عينيها و كيف منعت الدمع من الانحدار على وجنتيها بعد أن أسمعها موال الإهانة... 
لم ترد عليه بكلمة واحدة لكنها حزمت حقيبتها في نفس الليلة و أخذت الولدين و انسحبت بهدوء تاركة له قنابل متفجرة من الصمت المدجج باللوم و الألم و الذكريات ...
فتح التلفاز ليهدئ من روعه قليلا ، باحثا عن بعض الونس .. 
ففاجأته حفلة ملحم بركات و هو يغني " ارجعيلي "
فبكى …
Reactions

تعليقات