القائمة الرئيسية

الصفحات

نص من الواقع والحقيقة ...كل الحقيقة ...عن وجع الأمهات أتحدث 
حين يقتات الموت من شذاها

كانت تتحسّس الجدار براحتين منفرجتين تبحثان عن خلاص في عتمة الروح. وكانت القدمان تلامسان الأرض بذات حركة الكفين. وتنفرج عن الشفتين ابتسامة ذابلة ذبول الشروق في هزيعه الأخير. كيف تصدق ابتسامتها وهي التي لم يبق من وجه أحبتها شيء غير أنفاسهم الحارة ونمنماتهم فحتى البؤبؤ الذين كان وطنهم بات منفى يغرق في العتمة.
كانت تصارع صدمة إخبار بناتها أنها فقدت البصر فتتضرع إلى الله بأذرع الرجاوات أن يخفف وطأة المصيبة عليهن وهنّ زاد دمها بعد فقد ابنها في الرابعة العشرين ربيعا. تماما حين كان الربيع ينساب بين اصابعها أملا زلالا . فمن يمنحها صبرا وإن كان بلون الرماد تقوى به على فاجعتين من ذات القبيلة والسلالة ؟ باتت على قيد نصف الحياة ونصف الموت ونصف الحقيقة .أوغلت ذاكرتها في تفاصيل الفقد والحضور . وتذكرت كيف كان ينام على ركبتها فتمرر يدها على شعره الفاحم وتغني...كم أزهر قلبها حينها وكم رقصت للحياة..يعود إليها في نهاية كل أسبوع بعد الانتهاء من عمله محمّلا بالشّوق والوجد فتضيء..يملأ سلاله قبلات تطبع على قلبها قبل الجبين. يقول لها "أماه جلبت لك ما تشتهين وما تاقت إليه روحك..هذا التلفاز ..وهذه المدفأة تقيك صقيع الروح في غيابي والجسد..وهذه بعض الملابس ارجو ان تروقك. " فتجهش بالسعادة وتقول "يا حبيب قلبي لا أريد سواك ..أشتاقك ولدي لسمر وانتظرلقاء نهاية الأسبوع فلا أظفر بغير بقاياه ووقت زهيد لا يسمن ولا يغني من شوق ..كم أرجو الله أن تنتقل للعمل في مدينتنا لتكون قريبا من قلبي الذي أضناه البعاد ".
وذات نهاية أسبوع عاد عزيزها عودة شاحبة عرجاء سارع فيها إلى غرفته محموما تلتهمه نار الهذيان ويشتد وجعه في كل مكان ..لا شوق ولا لهفة ..حتى سلال الوجد والقبلات كانت خاوية هذه المرة ...سارعت إليه تمسح ماء عرقه بكفّيها وتدسّ رأسه بصدرها وتطلب ذاكرته والآتي من سنواته حتى تحاصر حضوره فلا تتوقع له ذهابا.
ازداد شحوبا ووهنا وألما وحمّى فسارع به أبوه إلى المشفى حيث كانت ترافقه ولا يسكن قلقها ..تئن معه كأعواد القصب تنفخ فيها الريح وتنتظر ما يشخصه الأطباء حول سبب وهن عزيزها .وفي والواحد والثلاثين من ديسمبر ذات ليلة مرتجفة مكسورة يتيمة لا تأمل في لقاء سنة جديدة جاءها الممرض " يا خالة لقد هجعت حركة ابنك واستكان..هو الآن هناك حيث العدل والرحمة والصدق...لقد مات ابنك يا خالة...البركة فيك..."
ما أصغر اللغة حين لا تصف الحزن ولا أعظم الحزن حين لا يقوله الكلام ...المهم ..بدأت مرحلة جديدة عشقها فيها حزن أهيف وبات الأسود يليق بها كثيرا...زهدت عن الدنيا وفيها...كل شي بات فيها مكسورا مختنقا ..بكت كثيرا لسنوات طويلة..اسألوا وسادتها يا سادتي كم ارتوأت من دموعها..واسألوا قبره كم اعتاد على شفتيها تعيد إليه سلال الوجد والقبلات..كانت خاوية من كل شي ...من كل شيء.. التهب قلبها شيبا قبل الرأس وذوت منها الروح وماتت ..ويا ويلي من موت الروح ...سكنها الوهن ولازمت الفراش...لم يبق من الثكلى شيء غير عتمة غرقت فيها بفقد البصر وحلم باللقاء .
ذات فجر تطلقت أساريرها وتوردت وجتناها وابتسمت...أجل ابتسمت ...شخصت أعين الجميع وهم يراقبون ما يزرع بوجهها...لكن من كبار العائلة ومن خبر الموت قال إنها سافرت ...لا جواز ولا حقيبة أدباش...سافرت للقاء تمنته فأينعت حين وصلت إليه وأزهرت...
غاب زوجها وأخوها وبعض الرجال وهم يعدون مراسم الدفن ...لم يستغرقوا وقتا في حفر القبر ..بل فتحوا قبره لتحتضنه لترقد بجواره سعيدة ..لتحقق أمل اللقاء ...نامت بسلام كما لم تنم منذ سلال القبل ....
كانت أمّي......................
Reactions

تعليقات